بنفسج

الشيخ حامد البيتاوي: رفيقة النضال ونصفه الآخر [2]

السبت 21 يناير

كان الخريف قد بدأ وبدء معه الفلاحون الفلسطينيون بالتوجه إلى أراضيهم لقطف الزيتون، حتى أولئك الذين سكنوا المدن، تركوا مساكنهم ليعودوا لأصلهم، فقد اشتاقت الأرض لصاحبها، وكيف إذا كان صاحبها يحبها، متمسك بها، يعمل لها ولأجلها طيلة الوقت منذ أن أنار الله بصيرته، كان الشيخ حامد البيتاوي عالم فلسطيني جليل وشخصية مرموقة وقاضٍ مخضرم، ولكن عباءته وعمامته التي تكسوه بالهيبة لم تمنعه أن يذهب ليقطف ثمار زيتوناته بنفسه، رفقة أسرته من أبناء وأحفاد نساء ورجالا ... "كان يحب الأرض، كل الأرض، ولكن لأرضه في قرية بيتا خصوصية، فلم يدع أحدًا يقطفها يومًا عنه، يحرثها ويعتني بها بنفسه لتغدق عليه بالخيرات، وإن اشتكى بقية الفلاحين من سوء الموسم لذلك العام".

تضيف الحاجة أم حاتم زوجة الشيخ حامد البيتاوي: "في كل عام يأخذنا لنقطف الزيتون سويًا، كان واجبًا دينيًا بالنسبة له، وفرصة ليجتمع بنا جميعًا، محاولًا تعويض غيابه، من يراه لا يصدق أنه حامد البيتاوي الشيخ والعالم والقاضي، كان يمازح أبناءه، يلف الواحد تلو الآخر إلى صدره، ويعود مع الصغار طفلًا يركض معهم ويلعب الغميضة، ويشعل النار بنفسه ويصنع لنا الطعام بنفسه مرات كثيرة".

لقد كان ذلك العام مختلفًا على الشيخ حامد البيتاوي وأسرته جميعًا، فقد كان الأجمل والأخير، تقول أم حاتم: "كان موسم الزيتون مميزًا جدًا، كنت أنظر إلى زوجي الشيخ، وهو يعطي كل ما لديه للأرض ولأهل بيته ليستمتعوا بصحبته بذلك اليوم، وأقول يا ترى هل هذا عامنا الأخير وكان كذلك".

مرض الشيخ حامد البيتاوي 

حامد البيتاوي
منذ عشرات السنوات حُرم الشيخ حامد البيتاوي من زيارة المسجد الأقصى، وها هو اليوم ينام على صورته ويستيقظ عليها، فقد طلب منهم أن يضعوه في غرفة تطل على المسجد الاقصى، وهذا نصف الشفاء برأيه، إن لم يكن كله، ولكن دون القدرة على الوصول إليه، بسبب صحته، فتقول أم حاتم: "كنت رفيقته في رحلته العلاجية، رفيقته الوحيدة، فالاحتلال حرم أبنائي، الوصول إلى القدس".
 
تضيف: "بعد وصولنا وعمل الفحوصات اللازمة قرر الأطباء له عملية القلب المفتوح في اليوم التالي، فطلب مني أن أخرج وصيته وأقرأها، رفضت بشدة وبكيت بشدة، تفجر كل ما حاولت أن أخفيه بداخلي وأجعل مكانه امرأة قوية صلبة".

في إحدى ليالي شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 2012، كان الشيخ متعبًا للغاية وتبدو عليه علامات الإرهاق والتعب العام والشديد، وظل طوال الليل لا يقوى على النوم من شدة التعب، وزوجته السيدة غادة تسهر على راحته، فلم يغمض لها جفن وهو متعب هكذا، حتى آذان الفجر، نهض من فراشة عازمًا أمره للذهاب إلى الصلاة في المسجد كما اعتاد ،  حاولت زوجته أن تمنعه، لا لشيء، إنما لأنها ترى التعب باديًا عليه، ويرد هو: "دعيني أذهب لربما تتحسن صحتي" ،  وبعد عودته من الصلاة اشتدت عليه علامات الإعياء، وبدأ العرق يجهده كما وصفت الحاجة أم حاتم، فاتصلت سريعًا بأبنائها الذي يقطنون جميعًا في ذات البناية وأخذوه إلى المشفى، وإذا بها جلطة على القلب.

تقول أم حاتم: "منذ ذلك اليوم وحتى شهرين متتالين لم يخرج الشيخ حامد البيتاوي من المستشفيات، ظل يتنقل بينها، حتى قال له الأطباء في المستشفى العربي في نابلس أنت بحاجة لعملية قلب مفتوح وهو ما لن نفعله لك، لأن هذه العملية خطيرة عليك في ظل امكانياتا في نابلس، فحصل على تحويلة إلى مستشفى المقاصد في القدس ". تضيف السيدة غادة: "خرجنا من البيت وهو يعانق بعينيه كل زاوية من زوايا المنزل، شعرت أنه يودعها؛ ينظر إلى نابلس وجبالها، يعانق الأبناء والأحفاد للمرة الأخيرة ،  وأنا أحاول أن أكذّب شعوري، وأسأل الله أن نعود من جديد فهو زينة البيت وروحها".


اقرأ أيضًا: الجزء الاول


منذ عشرات السنوات حُرم الشيخ حامد البيتاوي من زيارة المسجد الأقصى، وها هو اليوم ينام على صورته ويستيقظ عليها، فقد طلب منهم أن يضعوه في غرفة تطل على المسجد الاقصى، وهذا نصف الشفاء برأيه، إن لم يكن كله، ولكن دون القدرة على الوصول إليه، بسبب صحته، فتقول أم حاتم: "كنت رفيقته في رحلته العلاجية، رفيقته الوحيدة، فالاحتلال حرم أبنائي، أو أي أحد من أقاربه من الوصول إلى القدس". تضيف: "بعد وصولنا وعمل الفحوصات اللازمة قرر الأطباء له عملية القلب المفتوح في اليوم التالي، فطلب مني أن أخرج وصيته وأقرأها، رفضت بشدة وبكيت بشدة، تفجر كل ما حاولت أن أخفيه بداخلي وأجعل مكانه امرأة قوية صلبة".

حامد البيتاوي "الوداع الأخير"

2-21.jpg
أولاد الشيخ حامد البيتاوي وزوجته

أجرى الأطباء للشيخ حامد البيتاوي العملية وتكللت بالنجاح، وكان عليه أن يمكث شهرًا حتى تستقر حالته، كان ممنوعًا من الكلام الكثير والحركة، ولكنه كان يخالف القواعد، فحتى في مرضه وحتى اللحظات الأخيرة كان يحاول نشر دعوته بين زوار المشفى والأطباء والممرضين، تقول السيدة أم حاتم عن هذه الفترة: "بدأ قلبي يبرد وأنا أرى صحته تعود له، والأطباء سعداء من وضعه، حتى جاء اليوم الذي طلب مني فيه الشيخ أن أظل بجانبه ولا أذهب إلى الصلاة في المسجد الاقصى كما اعتدت يوميًا ،  وبعد وقت قصير تدهور وضعه الصحي، حاول الأطباء إنعاشه، لكن دون جدوى".

فتحت السيدة غادة، مكرهة الوصية التي طلب الشيخ منه أن تراها، وكانت وصيته أن يُدفن في القدس، وإن لم يتمكنوا، ففي نابلس بجانب الشهيدين جمال منصور وجمال سليم، وإن حال الأمر ففي بيتا مسقط رأسه ، شق الأمر على السيدة أم حاتم التي يجب عليها الآن أن تأخذ القرار، فأشارت أن يدفن في بيتا حتى يتسنى لأبنائه وأمه الذين حرموا طلية علاجه أن يروه، وأن يلقوا عليه نظرة وداع أخيرة.


اقرأ أيضًا: بيرزيت قلم على حجر: من مذكرات المربية ندى الجيوسي


تقول أم حاتم: "لطالما كان قلبي ضعيفًا أمام فكرة موت زوجي، ولكن لحظه قدوم الخبر نزل الصبر على قلبي حوقلت واسترجعت الله ،  وبعد أن كفنوه أخذوه ليصلوا عليه في المسجد الأقصى، كانت جنازة مهيبة لم أر مثلها في حياتي، آلاف الناس من فلسطين وآخرون أجانبَ كانوا قد حلو زورًا على المسجد الاقصى، حملوا نعشه حول أبواب المسجد الأقصى جميعها في مشهد وداع مهيب، حتى جنود الاحتلال ابتعدوا جميعًا، والجموع تهتف: يا شهيد ارتاح ارتاح واحنا نواصل الكفاح". وصلّوا عليه عند منبر صلاح الدين، كان أول شخص يضعوه عند هذا المنبر فلطالما شهد على خطبه". لم يتمكن منذ عام 1987 أن يزور المسجد الأقصى حيًا، وها هو يوم موته قريبًا من المسجد الذي أحب.

تضيف أم حاتم : "45 عامًا، ونحن متزوجان، لا أذكر أني قضيت معه النهار بطوله، ولكن في هذا الشهر عوضني عن غيابه الطويلة ، أفصح لي فيها كم كنت زوجة صبورة معه، صبرت على غيابه وسجنه وابعاده إلى مرج الزهور ، وأنني كنت نعم الزوجة والرفيقة له، وهو ما لم أندم عليه لحظة، بل أفخر به وأحمد الله عليه".

فلسطينية من القدس .. ولكن!

حامد البيتاوي
 
كانت الحاجة أم حاتم  تحمل الهوية الزرقاء لأنها من مواليد القدس، ولطالما كانت تقول للشيخ حامد البيتاوي زوجها: "دعني أمنحك الهوية، فتزور الأقصى متى شئت أو أن أمنحها لأبنائنا لزيارة القدس معي، وكان يرفض ويقول لي لم يتبق للاحتلال في بلادنا الكثير، غدًا يزول وأذهب كما يحلو لي إلى المسجد الأقصى، بل وربما أقطن بجواره".
 
لقد كانت هذه الهوية تسبب الكثير من المتاعب لأم حاتم، فكونها مقدسية متزوجة من غير أهل القدس، بل من أهل الضفة الغربية من شخص لطالما كان شوكة ً في حلق الاحتلال "

كانت الحاجة أم حاتم البيتاوي تحمل الهوية الزرقاء لأنها من مواليد القدس، ولطالما كانت تقول للشيخ حامد البيتاوي زوجها: "دعني أمنحك الهوية، فتزور الأقصى متى شئت أو أن أمنحها لأبنائنا لزيارة القدس معي، وكان يرفض ويقول لي لم يتبق للاحتلال في بلادنا الكثير، غدًا يزول وأذهب كما يحلو لي إلى المسجد الأقصى، بل وربما أقطن بجواره".

لقد كانت هذه الهوية تسبب الكثير من المتاعب لأم حاتم، فكونها مقدسية متزوجة من غير أهل القدس، بل من أهل الضفة الغربية، من شخص لطالما كان شوكة في حلق الاحتلال ،  عالم فلسطيني وقاض شرعي، تقول: "عندما ذهبت لزيارة زوجي في السجن لأول مرة تعرضت للمضايقات وصعوبات كثيرة بحجة أني مقدسية ولا يمكنني المرور من المكان المخصص للفلسطينيين، ولولا لطف الله لكنت تعرضت للاعتقال أو سحبوا مني هويتي، وفي مرة أخرى احتجزوني ليوم كامل، كان يظن زوجي في السجن أنني لم آتِ لزيارته، أما أبنائي فظنوا أني بالزيارة، ولذلك هاتفي مغلق، وأنا أتعرض لتحقيق قاس واحتجاز دام لساعات، ولكنه انتهى على خير. ، طلب مني زوجي بعدها أن لا أعود لزيارته مجددًا خوفًا عليّ، فكنت أحرم من رؤيته طيلة فترة سجنه".


اقرأ أيضًا: للذاكرة: هو وصورة وابتسامة


وراء كل رجل عظيم امرأة، عبارة لم ينكرها أحد أبرز علماء فلسطين الشيخ حامد البيتاوي، بل أكدها، ولطالما أثنى على زوجته أم حاتم التي كانت كمثيلاتها من نساء فلسطين تصبر على غياب زوجها في السجن وفي طريق دعوته ونضاله، بل تسنده وتدعمه وترعى بيته وتحفظه وتربي الأبناء كما يجب، وتسد الفراغ، وتكون الأم والأب في أحيان كثيرة، وقلبها عامر بالفخر والعزة والرضا.